نونة المأذونة

من يُهدي إليك نصيحةً على الملأ أنتَ قائمٌ بها فذلك من أكثر النّاس إساءَةً إلى نفسه قبل أن يكونَ مسيئاً لغيره،فهو الذي أوحتْ إليه بناتُ أفكاره بأنّه المعلّمُ الأول والعالمُ المسئول عن تصرّفات خلق الله،قادَ شخصيّتَه للاهتزاز وعلامات الاستفهام أنْ أقدَمَ على فعل على الملأ دون أن يفكّر في عاقبةِ ما يفعل ..

بعضُ الأشخاصِ بارعٌ في اقتناص فرصٍ منزوعة الحظّ في تسديد هجماتٍ لا تسمنُ ولا تغني من جوع تجاه أُناسٍ ليس بينه وبينهم عداوة ولا مسبّبات غيظ،وهو كذلك خبيرٌ في الخروج على النّص الحياتيّ الإنساني في حقوق الآخرين دونَ أن ترى في وجهه قليل حرَجٍ مما يصنع،لهُ جرأة الجاهلين في انتقادِ كلّ من يراه ولو على حسابِ دينِه وخُلقه ونظرة العالمين له ..

كلّ هذه الأجواء في حالةِ مثل هؤلاء المساكين تجعلنا نفكّر ونبحث عن الدّافع الحقيقيّ وراء وضعهم لأنفسهم في مثل هذه المواقف الباهتة المضحكة في نفس الوقت،فلربّما يكونُ لهم حقٌّ هُضِموهُ ولم يجدوا له منالاً إلا في أشباه الفُرص ولحظاتِ التقنّصات الخاطئة ليثبتوا لأنفسهم قبل غيرهم أنهم قادرين على الاعتداء والهجوم ..

واحدٌ من إخواننا الموسوم بالفقه في الدّين والالتزام الشرعي مظهراً ومشاركةً كانَ من ضمنِ الحاضرين لمجلسٍ في الحرم النبوي الشريف لعقد قران أقومُ بإجرائه أنا بحكم أنّني مأذون شرعي لعقود الأنكحة،ولمّا رآني ذا قدّ نحيل وبُنية جسمانيّة نحيفة مجتمعةٍ مع قليل من شعر الوجْه مأخوذ منه بمكينة الحلاقة ذات الرّقم (2) دارَ في خلدِه بأنّ هذا الصّيد ثمينٌ ليُنالَ منه،فهو محطُّ اعتقادٍ بأنّ تلك الأوصاف قرينة الجهل وعدم الدراية ..

ورغمَ وجودي بين اثنين من أكابرِ مجتمعنا علماً وفضلاً عن يميني ويساري،وبالرّغم من وجود دفتر الضبط الأخضر الكبير أمامي ممّا يوحي لكلّ من رآني وسط هذا الجمع بأنّني هو المسئول عن إجراء هذا العقد،ورغمَ أنّ صاحبنا قدْ علِمَ بأنّ الدولة لا تمنح تصريحاً رسميّاً للمأذونين الشرعيّين إلا لمن يحمل مؤهلاً علمياً في الشريعة ولهُ معرفة بأركان وواجبات وموانع العقد وطريقة إجرائه،إلا أنّ صاحبًنا بدا لهُ أنّه هو القائمُ بأمر الله في مسجدِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما يُرينا إلا ما يرى ..

وجّهَ هذا إليّ نصيحةً خَطّافيّة سريعة التصويب عاليةَ التصويت مزمجرةَ المزاج وقالَ لي إبّان بدايتي لتلاوة خطبة النّكاح:(الإيجاب والقبول)،وحيثُ إنّ الممتهنين للعمل الشّرعي أمثالي وهو يفهمون لغةَ بعضهم البعض فهمتُ قصدَه ومرماه،وعلمتُ بأنّه استغلّ تلك الصّورة التي رآني فيها (ذا جِرْمٍ جسديّ خالي من الدّسم والشّحم والكلوسترول) ليلفتَ أنظارِ الحاضرين لنفسه ومظهره الأولى بالانتساب لمهنة المأذون الشّرعي منّي أنا،ويذكّرُني بأركان العقد التي يعرفُها هو وحده دونَ الحاضرين بما فيهم مأذونهم الشّرعي ..

ابتسمتُ حينَها ابتسامَةَ من يعرفُ عيّنَة مثل هؤلاء وقلتُ في نفسي لولا أنّني في مسجدِ أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام وأنّ بجانبي من أفاضل النّاس من يستحقّون احتراماً وتقديراً ومنهم والدي حفظه الله تعالى،لكنتُ قلتُ لصاحبنا هذا (تعالَ إذنْ وأجري العقدَ بدلاً عنّي طالما أنّك بحمدِ الله تعرف الإيجابَ والقبول)،ولكنّ الله سلّم وتمّتْ عملية العقد كما أرادَ ربّي وسنّ لنا ديننا الحنيف،وختمتُ ذلك بالدّعاء للزوجين بالبركة ..

تذكّرتُ حينَها بأنّني من المفروض أن ألبسَ (البِشت) فلديّ أربعةُ بشوت بألوان مختلفة لعلّي بذلك أطفئ نارَ من يبحثُ عن فرصةٍ ليُري النّاس فقهاً وعلماً في نفسه غير موجود على حسابي،أو أنْ أزيحَ (العقال) من رأسي لعلّي أتشبّه ممّن يعرفهم هو بأوصافهم وسيماهم،وتذكّرتُ حينَها بأنّ الذين ينظرون للناس بناءً على هيئاتهم وتفاصيل مظهرهم وطريقة تهذيبهم لِلحاهُم ما زالوا موجودين بينَ أظهرنا ولمّا ينقرضوا رغم الثورات وتسارع المعلومات ..

لم أستغربْ بعدَها من أولئك الذين درسوا سنتين في كلية الطب ثمّ فصلوا أو تركوا الدراسة وأصبحوا إذا زاروا طبيباً قالوا له وهم مرضى:لا تنسَ أن تقيس الحرارة،وتعرف الضّغط،وتحاول أن تجري تحليلاً للدم،وربّما اقترحوا عليه نوعيّة الدواء وطريقة استخدامه،وحاولوا أن يفاجئوه بمصطلحات طبّية لاتينية مازالت عالقة بالذاكرة المريضة من جرّاء هذيان الحُمّى،ليسألهم الطبيب عن ذلك فيخبروه بأنّهم درسوا الطبّ ولولا حاجتهم له لما أتوه للكشف عليهم ..

هؤلاء أيضاً ليسوا بعيدين من أصحاب النظرات الاستراتيجيّة العسكريّة والآراء الحربيّة الذين يمتلأ بهم فضاء الإعلام بسبب خبرتهم العسكريّة السابقة في (قطاع المطافي) أو (في شركات أمنيّة) لا تعرف غير العصا الكهربائيّة سلاحاً،ولا أولئك المحلّلين الرياضيّين المتشدّقين في التعليق على مباريات (اليورو) في تلفزيونات محلّية مغمورة وأكثر خبرتهم أنّهم مكثوا في مقاعد الاحتياط حتّى تخلّلت أرجلهم ..

غريبٌ جدّاً أن يُسدي لك تنبيهاً غير ذي حاجةٍ رجلٌ يعرفُ بأنّ أطفالَ عالمنا العربي كلّهم يعلمونَ بأنّ عقدَ النّكاح (إيجابٌ وقبول) فلقد ثقّفتنا ونحنُ صغار الأفلام والمسلسلات المصريّة في هذا الجانب بمعلومات لا يمكنُ أن تُمحى من الذاكرة،حتى أنّني أكادُ أجزم بأنّ أغلب القارئين لمقالي هذا يحفظون عن ظهر قلب عبارة المأذون المصري في كلّ فيلم ومسلسل وهو يردّدُ على مسامع الولي “زوّجتُكَ ابنتي فلانة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان” ..

يا للعجَب من مثلِ أولئك الحشريّين في أمر لا يعنيهم وما دروا بأنّ (نونة أصحبَتْ مأذونة) وتعرف الفرق بين الإيجاب والقبول ..

3 تعليقات

  1. Posted by جرح انثي on 08/09/2012 at 4:07 ص

    جميل جدا ياعزيزي

    رد

  2. Posted by يحيى يوسف on 01/08/2013 at 12:39 م

    جميييييل جدا جدا حماكم الله من كلل حااااااسد ومعيان وظالم وممممن يريدون الفتن

    رد

  3. Posted by يحيى يوسف on 01/08/2013 at 12:43 م

    زادنا الله واياكم علما وادبا يااااارب

    رد

اترك رداً على جرح انثي إلغاء الرد